في الـ31 من يوليو الماضي كانت بعض الجماهير الفرنسية قررت حضور مباراة تنس نسائية عادية جداً، لعبت المباراة بين كرواتية وأوكرانية، وحين احتدمت المنافسة بين اللاعبتين، صرخ أحد الجماهير: ليون!
فجأة، لم يعد يكترث أي من الحضور لمباراة التنس، وأمسك الجميع بهاتفه الذكي؛ فقد حقق السباح ليون مارشان ذهبية جديدة لفرنسا.
في هذه اللحظة تحديداً، بدا أن الجماهير الفرنسية تهتف لشيء ما يتجاوز الرياضة في حد ذاتها؛ ربما هتفت الجماهير احتفالاً بأمة ناجحة، إذ تشير كل ميدالية أولمبية جديدة إلى أن المجتمع يقوم بأشياء مهمة بشكل صحيح، بعيداً عن الرياضة من الأساس. فهل هذا صحيح؟
«الرياضة ليست دواء شافياً، ولا يمكنها حل ما لم يتمكن الساسة ورجال الدين من حله».
- جاك روج، رئيس اللجنة الأولمبية الأسبق
عادة، تستخدم الأنظمة الرياضة بوصفها قوة ناعمة لتلميع صورتها أمام المجتمع الدولي، ولتعزيز الهوية الوطنية بين أفراد الشعب الواحد. عند هذه اللحظة ظهر مصطلح «التسلح الرياضي»، وهو ما يصف الصراع السلمي بين الدول طمعاً في فرض السيطرة على المسابقات الرياضية الدولية.
بلغ سباق التسلح الرياضي ذروته بعد الحرب العالمية الثانية، وقتئذٍ، حاولت الكتلة الاشتراكية التي كانت تعد الألعاب الأولمبية منافسة برجوازية، استغلال بطولة الأولمبياد نفسها لإثبات تفوقها على الكتلة الرأسمالية.
بالفعل أظهر الاتحاد السوفيتي تفوقاً كاسحاً على الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية مثل إنجلترا وفرنسا في الألعاب الأولمبية.
على سبيل المثال، شارك الاتحاد السوفيتي في 18 دورة ألعاب أولمبية قبل انهياره عام 1991، نجح في 13 منها في تصدر جدول ترتيب الميداليات الذهبية. في حين تفوقت ألمانيا الشرقية على الولايات المتحدة في ست دورات، أما في أولمبياد سيول 1988 التي أقيمت قبل انهيار جدار برلين بعام واحد فقط، تفوقت دول شيوعية مثل المجر وبلغاريا ورومانيا على دول أكثر ثراء مثل إيطاليا وفرنسا والمملكة المتحدة.
هذا التفوق الساحق حدث لعدة أسباب، لعل أبرزها عدم قدرة الدول الرأسمالية على إشراك محترفيها في الألعاب الأولمبية، إذ كانت الهواية شرطاً للمشاركة في الأولمبياد.
بينما ابتكرت الكتلة الشيوعية حيلة لتخطي هذا العائق؛ إذ أعادت تعريف مصطلح الرياضي الهاوي، ليتحول إلى لاعب لا يتقاضى راتباً مقابل ممارسته الرياضة بالفعل، لكنه في نفس الوقت يتدرب بوصفه محترفاً، بينما تضمن له الدولة دخلاً ثابتاً عبر إدراج اسمه موظفاً بإحدى مؤسساتها.
على ذكر دعم الدولة، حُقن الرياضيون وفق السجلات الطبية للاتحاد السوفيتي وألمانيا الشرقية على مدار عقود بالمنشطات والهرمونات لضمان استمرار هذا التفوق.
إذا نظرت لترتيب الـ10 دول الأولى في ترتيب ميداليات الألعاب الأولمبية باريس 2024 ستلاحظ أنها عبارة عن تسع دول ديمقراطية غنية، بجانب الصين.
دعنا نبدأ من الاستثناء. ظلت الصين لعقود وفية للنموذج السوفيتي، إذ يعتمد النظام الصيني على الدولة لاستكشاف عشرات الآلاف من الأطفال من سن ثلاث إلى خمس سنوات للتدريب بدوام كامل في أكثر من 2000 مدرسة رياضية تديرها الحكومة الصينية.
يتدرب نحو خمسة ملايين من الأطفال والشباب الصينيين لتحقيق هدف واحد: تعظيم الحصاد الأولمبي الذهبي الصيني.
وخلال هذا الطريق الطويل قبل الوصول إلى الميدالية الأولمبية، يتعرَّض هؤلاء الأطفال لكل أنواع الإيذاء البدني واللفظي؛ لأنها مهمة قومية.
على النقيض، يخبرنا سيمون كوبر مؤلف كتاب اقتصاديات كرة القدم، أن تحقيق الإنجازات الرياضية مرتبط بمؤشر التنمية البشرية الخاص بالأمم المتحدة الذي يقيس مدى رفاهية الدول بعد أخذ عوامل مثل عدد السكان، متوسط الأعمار، جودة التعليم في الحسبان.
إذن، هل يمكننا أن نفترض أن عوامل النجاح الأولمبي تتلخص في عدد السكان والإمكانيات المادية لكل دولة؟ الإجابة هي نعم، ولا في الوقت نفسه.
تمتلك كينيا أكثر من 30 ضعفاً لميداليات المملكة العربية السعودية في حين أن معدل دخل المواطن الكيني أقل بـ17 ضعفاً عن نظيره السعودي. بينما حصدت الصين أكثر من 20 ضعفاً من عدد الميداليات الأولمبية التي حققتها الهند، على الرغم من تقارب البلدين على مستوى عدد السكان. أين الخلطة السحرية إذن؟
يعتقد دانييل ريتش أستاذ السياسة المقارنة في الجامعة الأمريكية ببيروت، أن الإجابة تكمن في السياسة. وحدد ريتش ثلاث طرق رئيسية تنتهجها الدول للفوز بميداليات أولمبية بصفة مستدامة.
1. إشراك السيدات في المعادلة
حتى دورة ألعاب 2016 في ريو دي جانيرو كان 51.1% ممن مثلوا الرياضة الصينية سيدات، الأمر الذي منح الصين فرصة أكبر في حصد أكبر قدر من ميداليات منافسات السيدات فقط. في حين بدأت سيدات قطر، السعودية وبروناي في تمثيل بلادهن بالألعاب الأولمبية في 2012.
2. إضفاء الطابع المؤسسي
تنشئ بعض الدول أنظمة مركزية لاكتشاف الرياضيين الموهوبين ودعمهم مالياً، وتوفير مرافق تدريب ومدربين على درجة عالية من الكفاءة.
3. التخصص
تهتم بعض الدول برياضات معينة، سواء بسبب تفوقها التاريخي في هذه الرياضات أو بسبب إضافتها حديثاً للألعاب الأولمبية.
على سبيل المثال، تركز الولايات المتحدة دعمها على رياضات مثل السباحة، في حين يقل الدعم تجاه رياضة مثل تنس الطاولة. كما تدعم كوبا لاعبي الملاكمة، وتستثمر جامايكا في العدائين وهكذا.
في يوليو الماضي، نشرت المجلة الدولية لسياسة الرياضة والسياسة بحثاً بعنوان «ترسانة الديمقراطية؟ النجاح في سباق التسلح الرياضي العالمي بعد انهيار الستار الحديدي»، وحلل هذا البحث العلاقة ما بين أنواع النظم السياسية والنجاح الرياضي باستخدام بيانات من الألعاب الأولمبية.
شملت البيانات الألعاب الأولمبية منذ أتلانتا 1996 حتى طوكيو 2021، إذ حُللت نتائج مشاركات 149 دولة مع أخذ عوامل مثل الناتج المحلي الإجمالي للفرد، وعدد السكان، ومدة التجنيد، والمساواة بين الجنسين.
وجاءت النتيجة الرئيسية للبحث هي أن نوع النظام السياسي مهم في سباق التسلح الرياضي الدولي، إذ وُجدت علاقة إيجابية بين أنواع النظام الديمقراطي والنجاح في الألعاب الأولمبية الصيفية.
وحُدد نوع النظام ديمقراطياً كان أو استبدادياً وفقاً لنموذج «Polity 5» الذي يمنح الدول درجات بين (-10) و(+10). تشير الدرجات المنخفضة إلى أنظمة استبدادية، مثل الصين. تشير الدرجات الأعلى إلى أنظمة ذات نوع من السمات الديمقراطية، تصل إلى ديمقراطيات كاملة، بما في ذلك دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو ألمانيا.
إذا ما استثنينا الصين التي لا تزال تعمل وفقاً لنموذج صارم في ما يخص إعداد أبطالها الأولمبيين، نجد أن ترتيب الـ10 دول الأوائل في أولمبياد باريس على سبيل المثال متوافق تماماً مع نتيجة هذا البحث، حيث ديمقراطيات غنية تُجيد رعاية سكانها، وتوفر لهم حداً أدنى من القدرة على ممارسة الرياضة أياً ما كان جنسهم، ووضعهم الاجتماعي.
مع ذلك، لا يمكن إنكار حدوث بعض الطفرات رغماً عن أنظمة تسحق فرص قطاعات عريضة من البشر في التحول لأبطال أولمبيين قبل ولادتهم من الأساس.